فضائل الوقف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين وبعد:

الوقف نوع من أنواع الترابط والتكافل الاجتماعي وربط السلف بالخلف، وإعمار المساجد، والبر بين أبناء المسلمين، ويُعد الوقف من أفضل أوعية الإحسان، وهو شكر لله تعالى بتوظيف نعمة المال لتحقيق فوائد عظيمة في تنمية المجتمع، فيدعم المؤسسات التعليمية وينشر العلوم، ويقدم رعاية للفقراء والمساكين والأرامل، ويساهم في بناء المرافق الحيوية كالمساجد والمستشفيات..، ويؤدي رسالة حضارية مشرقة تسعد الإنسان في الدارين ويتجدد الأجر والثواب للواقف على مدى الأزمان، وعليه فقد قام المسلمون فأنفقوا أكارم وأنفس أموالهم لله تعالى ثم لأبناء المسلمين ولقد استفاد العالم الإسلامي ومازال في ظل هذه الصدقات الجارية لبناء المساجد ودور العلم.

تعريف الوقف لغة واصطلاحاً:

الوقف لغة: الحبس يقال: “وقف الأرض للمساكين وقفاً، أي حبسها، وجمعه أوقاف، والوقف والحبس بمعنى واحد، وكذلك التسبيل.

وفي الاصطلاح: قد اختلفت عبارات أهل العلم في تحديد معنى الوقف تبعاً لاختلافهم في طبيعة العقد من حيث اللزوم وعدمه، والتعريف المختار، هو تعريف الحنابلة، الذين عرفوه بأنه: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وذلك لكونه من التعريفات الجامعة المانعة، ولم توجه إليه اعتراضات مثل بقية التعريفات.

نشأتـه :أول وقف في الإسلام هو وقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وذكر ابن خزيمة في صحيحه: باب ذكر أول صدقة محبسه تصدق بها في الإسلام، ثم ذكر أثر ابن عمر معلقا.

مشروعية الوقف: قد دل على مشروعية الوقف نصوص الوحيين التي تدل على البذل والإنفاق وفعل الخيرات، وعمل به الصحابة رضوان الله عليهم بعد ذلك، كما أجمعوا على مشروعيته، وهذا ما قال به أهل العلم، إلا ما نقل عن شريح القاضي وهو رواية عن أبي حنيفة.

القرآن الكريم: قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران/92)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} (البقرة/67)، والآيات في ذلك كثيرة، بيد أنها عامة في الدلالة.

السنة النبوية: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ مَالًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» قَالَ: «فَعَمِلَ بِهَا عُمَرُ، عَلَى أَنْ لَا يُبَاعَ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبَ، وَلَا يُورَثَ، تَصَدَّقَ بِهَا لِلْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ»، قال الإمام النووي: “وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف”.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ “، قال الإمام النووي: “وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظم ثوابه”.

 الإجماع: أجمع أهل العلم على مشروعيته، وقد صرح غير واحد منهم بأن إجماع الصحابة منعقد على صحة الوقف، يقول ابن قدامة: ” أن جابرا رضي الله عنه قال: “لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، واشتهر ذلك ولم ينكره أحد فكان إجماعا، وقال ابن حجر نقلا عن الإمام الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ولا نعلم بين المتقدمين منهم على ذلك اختلافاً في إجازة وقف الأرض وغير ذلك “،قال ابن رشد : الأحباس سنة قائمة ، عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده.

حكمة مشروعية الوقف: الوقف قربة من القرب التي يتقرب بها المرء إلى ربه، والوقف يتميز عن بقية الصدقات والهبات بأمرين: الاستمرارية: أي استمرارية الأجر والثواب، وكذلك استمرارية الانتفاع به في أوجه الخير والبر، وعدم انقطاع ذلك بانتقال الملكية وهذا هو المقصود من الوقف من جهة انتفاع المسلمين به، الثاني: الاستقلالية، كما أن للوقف فوائد كثيرة، فإنه يؤدي إلى تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة الإسلامية، وفيه تحقيق لمصالح الأمة وذلك بتوفير احتياجاتهم ودعم تطورهم ورقيهم، كما أنه ربط الخلف بالسلف كما في قوله جل من قائل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ. . .} (الحشر:10)، وفيه بقاء للمال وتكفير للذنوب وغير ذلك من المصالح الإنسانية.

أنواع الوقف: يستنبط من أقوال الفقهاء أن الوقف على ثلاثة أنواع هي:

الأول: الوقف الخيري، أو الوقف العام: ويقصد منه صرف ريع الوقف إلى جهات البر التي لا تنقطع، سواء أكانت أشخاصاً معينين كالفقراء والمساكين، أم جهات بر عامة كالمساجد والمدارس والمستشفيات، ونحو ذلك.

الثاني: الوقف الأهلي أو الخاص: وهو ما يطلق عليه الوقف الذُري، وهو تخصيص ريع للواقف أولا ثم لأولاده ثم إلى جهة بر لا تنقطع.

الثالث: الوقف المشترك: وهو ما خصصت منافعه إلى الذرية وجهة بر معا، قال ابن قدامة: “وإن وقف داره على جهتين مختلفتين، مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين، نصفين، أو أثلاثا، أو كيفما كان جاز. وسواء جعل مآل الموقوف على أولاده وعلى المساكين، أو على جهة أخرى سواهم”

الوقف عند غير المسلمين: ورد أن الوقف قد عرف عند الفراعنة في مصر؛ إذ ذكر بعض المؤرخين أنه قد عثر على صورة وثيقة تبين أن والداً وهب ولده الأكبر أعياناً وأمره بصرف غلالها على إخوانه على أن تكون تلك الأعيان غير قابلة للتصرف فيها، كما عرف الرومان الوقف؛ إذ ينسب لجستنيان إمبراطور الرومان أنه قال: “إن الأشياء المقدسة كالمعابد، والنذور، والهدايا، ومما يخصص لإقامة الشعائر الدينية لا تجوز أن تباع أو ترهن، ولا يجوز أن يمتلكها أحد”.

وقد انتشر عند الألمان فكرة الوقف: على المعابد والكنائس، وحسب الإحصاءات التي نشرت فإن مدخرات الكنيسة في ألمانيا وميزانيتها في ازدياد، بل أنها تمثل أرقاماً عالية، فالأصل في الوقف عندهم أنه لا يباع ولا يوهب ولا تورث عينه وليس للمستحق فيه سوى المنفعة التي يتلقاها حسب ترتيب درجته في الاستحقاق.

وشهدت فرنسا انتشاراً في الأوقاف على دور العبادة والملاجئ والمدارس والمستشفيات حتى أنها شملت في القرن السادس عشر في عهد لويس الثاني عشر حوالي ثلث مساحة فرنسا، وعند قيام الثورة الفرنسية اعتبرت تلك الأوقاف ضمن أموال الدولة، إلى أن صدر قانون النظام الخيري الذي وفق بين فكرة الوقف الخيري وبين المصلحة العامة. ونتيجة لذلك فقد مكّنها من غزو معظم دول العالم بنشر معتقداتها وأنشطتها التبشيرية.

والوقف عند الأمريكيين يتبع النظام الأمريكي نوعاً من التصرفات المالية يسمى The Trust وهو عبارة عن: “إقامة أمانة خاصة بمال معين تلزم الذي يجوز هذا المال بعدة التزامات تهدف إلى استغلاله لفائدة طرق أخرى”.

وقد أسهم مثل هذا الوقف بكثير من الأعمال ذات المصلحة العامة، ممثلاً في استغلال التبرعات واستثمارها لصالح الجهة المستفيدة التي لا يشترط أن تعين باسمها، بل يكفي أن تحدد بأوصافها: الفقراء، طلبة كلية معينة أو اليتامى وغير ذلك.